في عالم يتسارع فيه الابتكار وتتصاعد فيه المنافسة على ريادة الذكاء الاصطناعي، تواصل شركة OpenAI تحقيق خطوات مذهلة، لكنها أيضًا تواجه تحديات مالية غير مسبوقة. فقد كشفت تقارير حديثة أن الشركة تنفق نحو 15 مليون دولار يوميًا لتشغيل تطبيق توليد الفيديو الجديد Sora، أحد أكثر مشاريعها طموحًا وإثارة للجدل. هذا الرقم الضخم يثير تساؤلات عديدة حول مستقبل الشركة، واستدامة نموذجها الاقتصادي، ومدى قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي المرئي على تحقيق أرباح حقيقية تعوّض النزيف المالي المتزايد.

البداية.. ولادة مشروع Sora من رحم الذكاء الاصطناعي المرئي

أعلنت OpenAI في مطلع عام 2024 عن إطلاق نموذجها الجديد Sora، وهو منصة لتوليد مقاطع الفيديو من النصوص باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي. الفكرة بسيطة في ظاهرها لكنها ثورية في جوهرها: المستخدم يكتب جملة أو فقرة، والذكاء الاصطناعي يحولها إلى فيديو واقعي التفاصيل بدرجة مذهلة. كان الهدف المعلن هو فتح آفاق جديدة للإبداع البصري، لكن خلف الكواليس كان المشروع يتطلب موارد حوسبة هائلة تكلّف الشركة ملايين الدولارات يوميًا.

يعتمد Sora على مزيج من تقنيات النماذج الانتشارية (Diffusion Models) ومعمارية المحوّلات (Transformers) المستخدمة في أنظمة الذكاء الاصطناعي الضخمة مثل GPT وDALL·E. إلا أن إنتاج فيديو بجودة عالية يتطلب قدرًا أكبر من الطاقة والمعالجات الرسومية مقارنة بإنتاج الصور أو النصوص، وهو ما جعل المشروع أكثر تكلفة بمراحل.

تكلفة الابتكار.. لماذا 15 مليون دولار يوميًا؟

بحسب تقارير من مواقع اقتصادية عالمية، تبلغ التكلفة التشغيلية اليومية لتشغيل Sora نحو 15 مليون دولار، أي ما يعادل أكثر من 5 مليارات دولار سنويًا إذا استمر المعدل نفسه. السبب وراء هذه التكلفة المرتفعة هو البنية التحتية السحابية الضخمة التي تعتمد عليها الشركة، إذ يحتاج Sora إلى مزارع خوادم

تحتوي على آلاف وحدات معالجة الرسومات (GPUs) من الفئة العليا، مثل NVIDIA H100 وA100، لتوليد فيديوهات بدقة عالية.

ويشير خبراء في مجال التقنية إلى أن كل فيديو قصير مدته 10 ثوانٍ قد يكلّف الشركة أكثر من دولار واحد لتوليده، وهو رقم يبدو بسيطًا، لكنه يتحول إلى نزيف مالي عندما نتحدث عن ملايين الفيديوهات التي تُنتج يوميًا حول العالم ضمن عملية التدريب والتجربة والتوليد المستمر.

بين الطموح والواقع.. هل Sora مشروع خاسر؟

يرى محللون أن مشروع Sora هو سلاح ذو حدين بالنسبة إلى OpenAI. فمن جهة، يُعتبر خطوة هائلة نحو توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي إلى المحتوى البصري، مما يمنح الشركة ريادة واضحة في هذا المجال الناشئ. ومن جهة أخرى، يضعها تحت ضغط مالي كبير قد يؤثر على قدرتها على الاستمرار بنفس الوتيرة.

ويقول الاقتصادي الأمريكي بيل هاريس إن “التكلفة اليومية لتشغيل Sora تجعل منه مشروعًا فخمًا على المدى القصير، لكنه قد يصبح أحد أعمدة الإيرادات في المستقبل إذا تم تحويله إلى منتج تجاري موجه للشركات الإعلانية والاستوديوهات السينمائية.”

كيف يعمل Sora؟ التكنولوجيا وراء السحر

يعتمد Sora على مبدأ التحويل النصي إلى بصري (Text-to-Video Generation)، حيث يُحلل النص المدخل باستخدام شبكة لغوية مشابهة لتلك التي يعتمد عليها ChatGPT، ثم يُحوّل الوصف إلى تسلسل من الإطارات المرئية باستخدام نموذج توليدي مدرّب على ملايين المقاطع الحقيقية. النتيجة هي فيديو يبدو حقيقيًا، بدقة تصل إلى 1080 بكسل، وبمشاهد متناسقة زمنياً وحركياً.

ويُستخدم في ذلك خوارزميات “الانتشار الزمني” التي تولّد الحركة تدريجيًا من ضوضاء عشوائية إلى فيديو مكتمل التفاصيل. هذا النوع من النماذج يتطلب آلاف العمليات الحسابية المعقدة في الثانية الواحدة، ما يجعل استهلاك الطاقة والمعالجة باهظًا للغاية.

المنافسة تشتعل.. Sora في مواجهة Runway وPika

في الوقت الذي تواصل فيه OpenAI تطوير Sora، تدخل شركات أخرى على خط المنافسة بقوة، مثل Runway وPika Labs وStability AI. هذه الشركات تقدم حلولًا مشابهة لتوليد الفيديوهات بالذكاء الاصطناعي لكنها أقل تكلفة وأسرع في الأداء، وإن كانت أقل جودة في المخرجات.

ويرى الخبراء أن Sora يتميز بواقعية أكبر وقدرة على إنتاج مشاهد معقدة، لكنه يعاني من ارتفاع تكلفة التشغيل، بينما تسعى الشركات المنافسة إلى تقديم بدائل تجارية أكثر استدامة من الناحية الاقتصادية. هذه المنافسة ستحدد مستقبل هذا القطاع خلال العامين المقبلين، وربما تجبر OpenAI على إعادة التفكير في نموذجها المالي.

رد فعل السوق والمستثمرين

أثارت أخبار “نزيف الخسائر” في Sora قلق المستثمرين الذين يرون أن الشركة تندفع بسرعة نحو استهلاك مواردها دون وجود عائد واضح. ومع ذلك، لا تزال هناك ثقة واسعة بأن OpenAI تراهن على المستقبل الطويل المدى، وليس الأرباح الفورية.

يقول المحلل التقني “إيثان ليفي”: “ما تفعله OpenAI اليوم هو الاستثمار في المستقبل، فهي تبني بنية تحتية ذكية يمكن أن تُستخدم لاحقًا لتطوير منتجات متعددة، من السينما إلى التعليم إلى التسويق.”

الفوائد العملية لـ Sora رغم التكلفة

رغم نزيف الأموال، فإن Sora يقدم مزايا ثورية لمجالات متعددة:

  • الإعلانات: يمكن للشركات إنتاج محتوى دعائي متنوع خلال دقائق بدلًا من أسابيع.
  • التعليم: إمكانية إنشاء مقاطع تعليمية تفاعلية تحاكي الواقع.
  • السينما المستقلة: صُنّاع الأفلام محدودو الموارد يمكنهم إنتاج مشاهد ضخمة دون الحاجة لتصوير فعلي.
  • المحتوى الرقمي: منشئو المحتوى على وسائل التواصل يحصلون على أدوات توليد فيديو عالية الجودة بأسعار منخفضة.

أزمة الاستدامة.. كيف تواجه OpenAI تحدي الإنفاق المفرط؟

من أجل السيطرة على الإنفاق، تدرس OpenAI نماذج مختلفة لتسعير الخدمة، مثل تقديم اشتراكات مدفوعة للشركات أو باقات محددة للمستخدمين الفرديين. كما تبحث في

تقنيات ضغط الفيديو وتحسين الخوارزميات لتقليل التكلفة دون التأثير على الجودة.

هناك أيضًا نقاشات داخلية حول إمكانية التعاون مع شركاء في مجال الحوسبة السحابية مثل Microsoft Azure لتقليل النفقات التشغيلية. إذ تمتلك مايكروسوفت استثمارات ضخمة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي وقد تقدم دعمًا لوجستيًا لتقليل العبء المالي.

الجانب الأخلاقي.. الخطر الكامن في الفيديو التوليدي

يتزامن تقدم Sora مع تصاعد المخاوف من إساءة استخدام تقنيات توليد الفيديو في إنشاء محتوى مضلل أو مزيف (Deepfake). فإنتاج مشاهد واقعية بالكامل قد يُستخدم لتزييف أحداث أو تصريحات أو حتى أشخاص حقيقيين. ولذلك، أعلنت OpenAI عن تطوير نظام “العلامات المائية الرقمية” لتضمين بصمات غير مرئية داخل كل فيديو مولد، بحيث يمكن تمييزه لاحقًا عن الفيديوهات الحقيقية.

كما تدرس الشركة آليات مراقبة متقدمة تضمن أن المحتوى الذي ينتجه المستخدمون لا ينتهك القوانين أو حقوق الآخرين. ومع ذلك، لا تزال هذه الجهود تواجه تحديات تقنية وقانونية هائلة.

تأثير المشروع على مستقبل صناعة المحتوى

من المرجح أن يُحدث Sora ثورة في صناعة الإعلام والترفيه. فإمكانية إنتاج فيديوهات واقعية من نصوص ستغيّر تمامًا طريقة التفكير في الإبداع البصري. وقد نصل إلى مرحلة يصبح فيها أي شخص قادرًا على “إخراج فيلم” دون كاميرا أو فريق تصوير.

لكن هذا التغيير سيؤثر أيضًا على الوظائف التقليدية في مجالات مثل المونتاج، الإخراج، والإنتاج السينمائي، مما يطرح أسئلة حول مستقبل القوى العاملة الإبداعية في ظل الذكاء الاصطناعي.

الخلاصة.. بين الحلم والتكلفة

يبدو أن OpenAI تخوض الآن واحدة من أعقد معاركها الاقتصادية والتقنية في آن واحد. فبينما يحقق Sora طفرة علمية غير مسبوقة، فإن استمرارية المشروع تتطلب حلولًا مالية جذرية. فهل ستنجح الشركة في تحويل هذا “النزيف الذهبي” إلى منجم أرباح مستقبلية؟ أم سيثبت

أن الحلم أكبر من القدرة على التمويل؟

الأكيد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية بل أصبح صناعة كاملة، تتقاطع فيها التكنولوجيا بالاقتصاد، والابتكار بالمخاطر، والمستقبل بالواقع. ووسط هذا المشهد، يبقى Sora علامة فارقة في تاريخ المحتوى المرئي، حتى وإن كانت تكلفته تُقاس بالملايين كل يوم.

قد لا يعرف العالم اليوم إن كان Sora مشروعًا مستدامًا أو فقاعة مالية مؤقتة، لكن المؤكد أنه أعاد رسم حدود الإبداع. وبينما تنزف OpenAI ملايين الدولارات يوميًا لتشغيله، فإنها في المقابل تشتري مكانها في صدارة المستقبل.