عاصمة المستقبل ترسم ملامح الطب القادم
تواصل العاصمة السعودية الرياض ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للابتكار والتحول في قطاع الرعاية الصحية، من خلال احتضانها فعاليات ملتقى الصحة العالمي 2025، الذي جاء هذا العام تحت شعار “الذكاء الاصطناعي والجينوم.. نحو مستقبل صحي مستدام”.
ويُعد هذا الحدث من أضخم الملتقيات الطبية في الشرق الأوسط، حيث جمع نخبة من العلماء والأطباء والباحثين وصناع القرار من أكثر من 80 دولة، لمناقشة أحدث الابتكارات والتحديات في مجالات الذكاء الاصطناعي، الطب الجينومي، التحول الرقمي، والاستدامة الصحية.
يأتي الملتقى في إطار رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تعزيز جودة الحياة، وتمكين الابتكار في جميع القطاعات، وعلى رأسها قطاع الصحة، باعتباره أحد أهم ركائز التنمية الوطنية.
وفي أروقة مركز الرياض للمعارض والمؤتمرات، تحوّل الحدث إلى منصة عالمية للنقاش العلمي والتبادل المعرفي، ترسم معالم المستقبل الصحي للعالم العربي والعالم بأسره.
الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان.. ثورة بلا حدود
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في المختبرات أو برامج للحواسيب، بل أصبح شريكًا أساسيًا للأطباء في اتخاذ القرارات السريرية وتشخيص الأمراض وتطوير العلاجات.
وفي ملتقى الصحة العالمي 2025، كان الذكاء الاصطناعي هو النجم الأبرز بلا منازع، إذ تناولت عشرات الجلسات التطبيق العملي لهذه التقنية في مختلف فروع الطب، من تحليل صور الأشعة إلى اكتشاف السرطان المبكر، ومن متابعة المرضى عن بُعد إلى تطوير الأدوية المخصصة.
وخلال جلسة بعنوان “العقل الاصطناعي.. الطبيب المساعد”، عرضت مجموعة من الشركات العالمية نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على قراءة الأشعة المقطعية بدقة تفوق 98%، وتحديد المؤشرات الحيوية في أقل من ثوانٍ.
وأكد المتحدثون أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادرًا على تحليل ملايين السجلات الطبية لاستخلاص أنماط خفية تساعد في التنبؤ بالأمراض المزمنة قبل
السعودية تتصدر التحول الرقمي الصحي في الشرق الأوسط
أعلن نائب وزير الصحة للتخطيط والتحول أن المملكة تحتل المركز الأول في المنطقة في مجال الرقمنة الصحية، مشيرًا إلى أن أكثر من 92% من المستشفيات الحكومية أصبحت الآن مرتبطة بنظام إلكتروني موحد يربط السجلات الطبية إلكترونيًا، مما يوفر الوقت والدقة ويُقلل الأخطاء البشرية.
وأشار إلى أن الوزارة تعمل على دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة الطوارئ والإسعاف لتحليل الحالات الحرجة فور استقبالها وتوجيه الفرق الطبية المناسبة بشكل فوري.
الطب الجينومي.. خريطة الجينات تفتح باب الطب الشخصي
ضمن فعاليات الملتقى، كان محور الطب الجينومي من أكثر الجلسات إثارة واهتمامًا، إذ يمثل مستقبل الطب الدقيق الذي يركز على الفرد بدلًا من النمط العام للعلاج.
الطب الجينومي يعتمد على تحليل الشيفرة الوراثية لكل إنسان لفهم تركيبته الجينية الخاصة، وبالتالي تصميم علاجات وأدوية تناسب حالته بدقة.
في جلسة بعنوان “من الجينوم إلى العلاج الشخصي”، استعرضت مجموعة من الخبراء أحدث نتائج مشروع “الجينوم السعودي” الذي يُعد أحد أكبر المشاريع الجينية في الشرق الأوسط، ويهدف إلى رسم خريطة دقيقة للجينات السعودية من أجل فهم الأمراض الوراثية المنتشرة محليًا وتطوير حلول وقائية مبكرة.
الجينوم والذكاء الاصطناعي.. تحالف جديد للشفاء
ما يجعل الطب الجينومي أكثر ثورية اليوم هو اندماجه مع الذكاء الاصطناعي، حيث تساعد الخوارزميات الحديثة في تحليل بلايين البيانات الجينية في وقت قصير، لاستخلاص العلاقات بين الطفرات الوراثية والأمراض المعقدة.
وقد أظهرت الأبحاث أن هذا الدمج يمكن أن يقلل من زمن تشخيص الأمراض الوراثية النادرة من أسابيع إلى دقائق فقط.
وتعمل السعودية بالتعاون مع مراكز بحثية عالمية على إنشاء منصات تحليل جيني ذكية داخل الجامعات والمستشفيات الكبرى، لتكون قاعدة بيانات وطنية تخدم البحث العلمي والابتكار الطبي المحلي.
الاستدامة في الصحة.. رعاية الغد تبدأ اليوم
واحدة من أبرز محاور ملتقى الصحة العالمي كانت الاستدامة في أنظمة الرعاية الصحية، حيث أكد المشاركون أن مستقبل الطب لا يقتصر على العلاج فقط، بل يمتد إلى إدارة الموارد بكفاءة بيئية واقتصادية.
فالمنشآت الصحية تمثل أحد أكبر المستهلكين للطاقة والمياه، وتنتج كميات ضخمة من النفايات الطبية التي تتطلب إدارة واعية ومستدامة.
أشار الخبراء إلى أن استخدام الطاقة النظيفة في المستشفيات، وتقنيات التعقيم بالهيدروجين الأخضر، وإعادة تدوير المواد الطبية، أصبح جزءًا أساسيًا من استراتيجيات الصحة المستدامة التي تتبناها المملكة.
كما ناقش الحضور أهمية التحول إلى المستشفيات الذكية الخضراء، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة الطاقة وتقليل الانبعاثات.
رؤية 2030.. خارطة طريق لصحة الإنسان والبيئة
أكد المشاركون أن الجهود الصحية في المملكة تتكامل مع رؤية السعودية 2030، التي تضع الإنسان في قلب التنمية.
وتسعى الحكومة إلى بناء نظام صحي شامل يُركز على الوقاية قبل العلاج، ويعتمد على التقنيات الحديثة لتقليل التكاليف وتحسين الكفاءة التشغيلية.
وفي هذا السياق، تم إطلاق عدة مبادرات مثل “صحة المستقبل”، و“نظام الملف الطبي الموحد”، ومشروع “المستشفى الذكي المستدام”.
التحول الرقمي في الخدمات الصحية.. تجربة المريض أولاً
شهد الملتقى عروضًا تفاعلية لأنظمة رقمية حديثة تُستخدم اليوم في المستشفيات السعودية لتطوير تجربة المريض.
من بينها تطبيقات لمتابعة ضغط الدم ومعدل السكر عبر الأجهزة القابلة للارتداء، وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتواصل مع المريض بعد الخروج من المستشفى لمتابعة حالته الصحية وتذكيره بالمواعيد والأدوية.
كما تم عرض مشروع “المستشفى الافتراضي السعودي”، الذي يُعد من أكبر مشاريع الرعاية عن بُعد في الشرق الأوسط، حيث يتيح للأطباء في العاصمة تقديم الاستشارات لمستشفيات نائية في المناطق البعيدة، مما يسهم في تعميم العدالة الصحية بين جميع المواطنين
البحوث والابتكار الطبي.. السعودية مركز علمي جديد
أبرز ما ميز ملتقى الصحة العالمي 2025 هو حجم المشاركات البحثية من الجامعات السعودية.
فقد قدّمت جامعة الملك سعود، وجامعة الأميرة نورة، ومركز الملك عبدالله للأبحاث الطبية أكثر من 120 ورقة علمية تناولت موضوعات متعددة مثل العلاج بالخلايا الجذعية، والذكاء الاصطناعي في تشخيص الأورام، وأمراض الشيخوخة.
كما تم توقيع اتفاقيات تعاون بين وزارة الصحة السعودية وشركات عالمية في مجال الروبوتات الجراحية والتقنيات الحيوية.
وأكد الخبراء أن هذه الخطوات تعزز موقع المملكة كمركز إقليمي للبحث الطبي والابتكار الصحي.
الذكاء الاصطناعي في الجراحة.. الروبوت الذي لا يخطئ
واحدة من أكثر الجلسات التي جذبت الحضور كانت بعنوان “الروبوت الجراح.. شريك الطبيب في غرفة العمليات”.
خلالها تم عرض أحدث النماذج الجراحية الآلية القادرة على إجراء عمليات دقيقة في القلب والدماغ والعظام بنسبة دقة تصل إلى 99.9%.
وشرح الأطباء كيف يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل الصور اللحظية أثناء الجراحة لتوجيه الأدوات الجراحية بدقة ميكروسكوبية، مما يقلل من فقدان الدم ويُسرع التعافي.
وقال أحد المتحدثين: “الروبوتات لن تحل محل الأطباء، لكنها ستمنحهم عيونًا إضافية وأيدٍ أكثر ثباتًا”.
ويجري حاليًا تدريب عشرات الجراحين السعوديين على هذه التقنيات بالتعاون مع شركات عالمية.
الطب الوقائي.. الاستدامة تبدأ من الوعي
أوضح المتحدثون في جلسات “الطب الوقائي” أن الاستدامة لا يمكن تحقيقها دون نشر ثقافة الوعي الصحي بين الأفراد.
فالوقاية من الأمراض المزمنة مثل السمنة والسكري وأمراض القلب تُعد العمود الفقري لنظام صحي فعّال ومستدام.
أطلقت وزارة الصحة خلال الملتقى حملة وطنية بعنوان “ابدأ بنفسك” لتشجيع المواطنين على ممارسة النشاط البدني وتبني أنظمة غذائية صحية، مع التركيز على دور المدارس في ترسيخ الوعي الصحي لدى الأطفال.
تجارب عالمية.. من اليابان إلى السويد
استعرض الملتقى تجارب
وأكد ممثلو هذه الدول أن السعودية تسير بخطى سريعة نحو مضاهاة النماذج العالمية، بفضل استثماراتها الضخمة في التعليم والبحث العلمي.
الاستثمار في الصحة الرقمية.. اقتصاد المستقبل
تجاوزت قيمة الاستثمارات في القطاع الصحي الرقمي في السعودية عام 2025 حاجز 10 مليارات ريال سعودي، مع توقعات بنمو سنوي بنسبة 12% حتى عام 2030.
وأكدت الشركات المشاركة في الملتقى أن القطاع الصحي السعودي يمثل بيئة واعدة للشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا الطبية، حيث يتم دعم الابتكار المحلي وتسهيل تراخيص التجارب السريرية.
كما أعلنت وزارة الاستثمار عن إطلاق صندوق لدعم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي الطبي بقيمة مليار ريال، بهدف تحويل الأفكار إلى حلول عملية تساهم في تحسين جودة الحياة.
الإنسان أولًا.. الرعاية برؤية إنسانية
على الرغم من أن الحديث في الملتقى كان تقنيًا في معظمه، فإن الرسالة التي تكررت في كل الجلسات هي أن الإنسان يجب أن يظل في قلب التكنولوجيا.
فالمستشفيات الذكية، والروبوتات، والبيانات الضخمة، ليست سوى أدوات في يد الطبيب لخدمة المريض وليس لاستبداله.
وقد دعا المشاركون إلى تطوير أخلاقيات واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الطب، تضمن سرية بيانات المرضى وتحافظ على حقوقهم في الاختيار والموافقة.
خاتمة.. من الرياض يبدأ مستقبل الطب
ختامًا، أثبت ملتقى الصحة العالمي 2025 في الرياض أن المستقبل الصحي ليس حلمًا بعيدًا، بل واقع يُصنع اليوم بخطوات علمية مدروسة تجمع بين الذكاء الاصطناعي والجينوم والاستدامة.
لقد تحولت الرياض إلى مختبر مفتوح للمستقبل، حيث تتلاقى العقول من الشرق والغرب لتصميم نموذج صحي عالمي أكثر إنسانية وكفاءة.
من هنا، لا يمكن النظر إلى الملتقى كحدث سنوي فقط، بل كمنصة استراتيجية تُعيد تعريف معنى الطب في القرن الحادي والعشرين، وتضع المملكة العربية السعودية في موقع الريادة الصحية عالميًا.
فبين شيفرة الجينات وذكاء الخوارزميات، وبين وعي الإنسان ومسؤولية الحكومات، تُكتب اليوم ملامح الجيل الجديد من الطب: طب المستقبل الذي يبدأ من الرياض ويتجه نحو العالم.
تعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد — كن أوّل من يعلّق.