في خطوة غير مسبوقة في عالم الاتصالات الرقمية، أعلنت شركة واتساب المملوكة لشركة ميتا عن تطوير ميزة أمنية جديدة وصفتها بأنها الأقوى في تاريخ المنصات الاجتماعية، تهدف إلى جعل المحادثات عبر التطبيق محصنة ضد أي محاولة اختراق أو مراقبة من أي جهة كانت، حتى من الحكومات وأجهزة الاستخبارات العالمية. وتأتي هذه الخطوة في إطار سعي الشركة لتعزيز ثقة المستخدمين في زمن تتزايد فيه المخاوف من التجسس الرقمي وسرقة البيانات الشخصية.

ما هي الميزة الجديدة في واتساب؟

الميزة الجديدة التي تعمل عليها واتساب تُعرف باسم التحقق الكامل للطرفين عبر المفاتيح المستقلة (End-to-End Enclave Encryption)، وهي تطوير متقدم لتقنية التشفير الطرفي التي يستخدمها التطبيق منذ سنوات. الميزة تعتمد على إنشاء مفاتيح أمان متغيرة وموزعة على أكثر من خادم مشفر في الوقت ذاته، بحيث يصبح من المستحيل تقريبًا لأي طرف خارجي — بما في ذلك واتساب نفسه — أن يعترض أو يقرأ محتوى المحادثات أو المكالمات.

وبحسب الخبراء، فإن هذه التقنية الجديدة تجعل البيانات تنتقل بين المستخدمين عبر “أنفاق رقمية” مغلقة تمامًا لا يمكن اختراقها حتى باستخدام أقوى الحواسيب الفائقة. فهي تعتمد على توليد مفاتيح تشفير فريدة لكل جلسة محادثة، يتم إنشاؤها تلقائيًا على أجهزة المستخدمين ثم تُدمر فور انتهاء الجلسة، مما يمنع حتى الطرفين من استرجاعها لاحقًا.

لماذا تُعد هذه الميزة ثورية؟

منذ سنوات، يشهد العالم سباقًا محمومًا بين الشركات التقنية الكبرى والجهات الحكومية حول من يملك السيطرة على تدفق المعلومات الخاصة بالمستخدمين. وبينما طالبت بعض الحكومات مرارًا بإنشاء “أبواب خلفية” تتيح الوصول إلى بيانات المستخدمين لأسباب أمنية، رفضت واتساب بشدة تلك المطالب، مؤكدة أن حماية الخصوصية هي “حق أساسي لا يمكن التنازل عنه”.

الميزة الجديدة تمثل ردًا

عمليًا من واتساب على تلك الضغوط، فهي تُغلق أي احتمال لتدخل طرف ثالث في نظامها الأمني، مما يجعل التجسس شبه مستحيل. يقول أحد مهندسي الأمن في الشركة: “حتى لو استُخدمت أقوى أدوات الذكاء الاصطناعي لفك التشفير، فإن الميزة الجديدة تجعل العملية غير مجدية رياضيًا أو تقنيًا”.

كيف تعمل الميزة الجديدة؟

تعتمد التقنية الجديدة على ما يُعرف بـ الأنظمة الموزعة لتبادل المفاتيح (Distributed Key Exchange Systems)، وهي بنية أمنية متقدمة تقوم على فكرة أن مفاتيح التشفير لا تُخزّن في مكان واحد، بل تُقسم إلى أجزاء صغيرة يتم توزيعها بين عدة عقد سحابية مشفرة. ولا يمكن إعادة تجميع هذه المفاتيح إلا عندما يتواصل الطرفان المعنيان في الوقت الفعلي.

وبمجرد انتهاء الجلسة، تُعاد المفاتيح إلى حالة “عدم الوجود الرقمي”، أي أنها تُمسح بالكامل من الخوادم ومن أجهزة المستخدمين، وهو ما يعني أنه لا توجد أي وسيلة لاستعادتها لاحقًا. وهذا النوع من التشفير يُستخدم حاليًا فقط في بعض الأنظمة العسكرية المتقدمة، إلا أن واتساب تنقله الآن إلى الاستخدام المدني على نطاق واسع.

انعكاسات الميزة على الأمن الرقمي العالمي

إطلاق هذه الميزة سيحدث تحولًا جذريًا في معايير الأمان والخصوصية على مستوى العالم. فمع تزايد حالات الاختراق والتجسس التي طالت كبار الشخصيات والشركات خلال السنوات الأخيرة، أصبحت حماية البيانات تحديًا مصيريًا. هذه الميزة الجديدة ستجبر حتى أكبر الحكومات على إعادة النظر في سياسات المراقبة الرقمية.

ويرى خبراء أن نجاح واتساب في تطبيق هذه التقنية سيشكل ضغطًا كبيرًا على التطبيقات المنافسة مثل تليجرام وسيجنال وآي ميسج، والتي ستضطر بدورها إلى تطوير أنظمة مشابهة للحفاظ على ثقة المستخدمين. ومن المتوقع أن تدخل هذه الميزة مرحلة التجارب الموسعة في نهاية العام الجاري، تمهيدًا لإطلاقها عالميًا مطلع 2026.

موقف الحكومات من التشفير الكامل

لطالما كانت قضية التشفير الكامل موضوعًا حساسًا بين شركات التكنولوجيا والحكومات. ففي بعض الدول، يُعتبر استخدام أنظمة تشفير لا يمكن فكها تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة في مراقبة الأنشطة الإلكترونية التي قد تُصنف “تهديدًا للأمن القومي”. لذلك من المرجح أن تواجه واتساب ضغوطًا تنظيمية جديدة بعد إطلاق هذه الميزة.

ورغم ذلك، تؤكد الشركة أنها ملتزمة بالقوانين المحلية في كل دولة، لكنها في الوقت نفسه لن تقدم تنازلات تمس سلامة بيانات المستخدمين. وقال متحدث باسم ميتا: “نحن نؤمن بأن الأمان الشخصي لا يتعارض مع الأمن القومي، بل يعززه. كلما كانت الاتصالات أكثر أمانًا، كانت المجتمعات أكثر استقرارًا”.

هل الميزة تمنع تمامًا التجسس؟

من الناحية التقنية، لا يوجد نظام أمني “مطلق الحماية”، لكن الميزة الجديدة تقلل احتمالية الاختراق إلى حد الصفر تقريبًا. فحتى في حال تمكن أحد المهاجمين من الوصول إلى جهاز المستخدم، لن يكون بإمكانه فك تشفير المحادثات السابقة، لأن المفاتيح المستخدمة لتأمينها تكون قد حُذفت نهائيًا.

وتشير تحليلات أمنية إلى أن هذه الميزة تجعل التجسس عبر برمجيات التجسس المتقدمة مثل Pegasus عديم الفاعلية تقريبًا، لأنها تمنع الوصول إلى محتوى الرسائل مباشرة من الخوادم، وتجعل أي محاولة للتنصت تتطلب تحكمًا فعليًا في الجهاز نفسه، وهو أمر شديد الصعوبة.

تأثير الميزة على المستخدمين

بالنسبة للمستخدم العادي، قد لا يلاحظ تغييرات كبيرة في واجهة واتساب، لكن التأثير الحقيقي سيكون في مستوى الأمان والخصوصية الذي سيحصل عليه. فالمحادثات، المكالمات، والملفات المرسلة ستكون مؤمنة بشكل غير مسبوق. حتى لو تعرض حساب المستخدم للاختراق أو سُرقت بيانات الدخول، فلن يتمكن المهاجم من قراءة أي محتوى سابق.

كما تتيح الميزة للمستخدمين خيار التحقق الذاتي من التشفير عبر رموز أمان تُحدث

تلقائيًا، مما يمنحهم ثقة أكبر بأن الطرف الآخر هو بالفعل الشخص المقصود وليس جهة متخفية أو برنامج تجسس.

مستقبل الخصوصية في واتساب

تسعى ميتا من خلال هذه الميزة إلى إعادة رسم صورة واتساب كمنصة آمنة تمامًا بعد سلسلة من الجدل حول مشاركة البيانات مع فيسبوك سابقًا. ومع تصاعد المنافسة من تطبيقات الخصوصية مثل Signal، فإن إطلاق ميزة تمنع أي قوة في العالم من التجسس يعد بمثابة “إعادة بناء الثقة” بين واتساب ومستخدميه البالغ عددهم أكثر من ملياري شخص حول العالم.

كما تخطط الشركة لإضافة طبقات أمان إضافية في المستقبل، تشمل تشفير النسخ الاحتياطية في السحابة بخوارزميات مستقلة لا يمكن الوصول إليها حتى من جوجل درايف أو آي كلاود، بحيث تكون البيانات الخاصة بالمستخدم تحت سيطرته الكاملة فقط.

تحديات التطبيق على أرض الواقع

رغم الحماس الكبير، إلا أن تنفيذ هذه الميزة على نطاق عالمي ليس بالأمر السهل. فالتشفير الكامل بهذه الطريقة يتطلب بنية تحتية ضخمة وقدرات حسابية هائلة. كما يجب ضمان توافق الميزة مع ملايين طرازات الهواتف القديمة التي لا تدعم أحدث تقنيات الأمان.

تعمل واتساب حاليًا على تطوير نظام متدرج لتطبيق الميزة تدريجيًا بحسب المناطق والدول، بحيث تبدأ بالدول الأوروبية وأمريكا الشمالية ثم تُوسع نطاقها إلى الشرق الأوسط وآسيا لاحقًا. كما يتم اختبار الأداء لضمان عدم تأثر سرعة المراسلة أو جودة المكالمات بهذه المستويات الجديدة من التشفير.

آراء الخبراء حول الميزة الجديدة

يرى خبراء الأمن السيبراني أن خطوة واتساب تمثل “قفزة نوعية” في مجال حماية الخصوصية. ويقول الخبير التقني مارك رودريغز إن ما تقوم به واتساب هو “ثورة في عالم الاتصالات المشفرة، لأنها تقدم حماية شبيهة بالأنظمة العسكرية ولكن لمليارات المستخدمين المدنيين”.

في المقابل، حذر بعض الخبراء من أن

الميزة قد تُستخدم من قبل المجرمين أو المنظمات غير الشرعية لإخفاء أنشطتهم، وهو ما قد يثير مخاوف الحكومات ويخلق جدلًا قانونيًا جديدًا حول حدود الخصوصية في العصر الرقمي.

واتساب والذكاء الاصطناعي: التوازن بين الأمان والابتكار

تسعى واتساب أيضًا إلى دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في خدمتها لتحسين تجربة المستخدم دون المساس بالخصوصية. فبفضل الميزة الجديدة، يمكن للشركة تطوير مساعدين رقميين يعملون على الجهاز المحلي دون إرسال أي بيانات إلى الخوادم، مما يخلق نموذجًا جديدًا من الذكاء الاصطناعي “الآمن ذاتيًا”.

وتشير تسريبات داخلية إلى أن الشركة تختبر أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل الرسائل بشكل محلي للمساعدة في تنظيم الدردشات، اقتراح الردود الذكية، أو تصفية الرسائل المزعجة، وكل ذلك دون أي تدخل من الشركة أو وصول إلى بيانات المستخدم.

الخاتمة

الميزة القادمة إلى واتساب تمثل نقطة تحول تاريخية في مفهوم الخصوصية الرقمية، إذ لم يعد الأمان مجرد وعد تسويقي، بل أصبح حقيقة تقنية تضع واتساب في صدارة العالم من حيث حماية المستخدمين. إنها المرة الأولى التي يصبح فيها من المستحيل فعليًا لأي قوة في العالم — سواء كانت حكومية أو تجارية — أن تتجسس على محادثة بين شخصين.

وبينما يُشيد الخبراء بهذه الخطوة الجريئة، يرى البعض أنها بداية فصل جديد في الصراع بين حرية الخصوصية ومتطلبات الأمن القومي. ومع ذلك، يبقى الأكيد أن واتساب تضع معيارًا جديدًا لعصر الإنترنت، عنوانه: الخصوصية أولًا، والأمان للجميع.